د. عبد الفتاح الزنيفي
استاذ التعليم العالي؛ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء
استجابة للبلاغ الملكي الأخير؛الذي أكد على ضرورة استشارة أهل الاختصاص من الأساتذة و الباحثين قصد بلورة أفكار تتحرى الموضوعية؛والعلمية؛والاجتهاد الوازن في تعديل مدونة الأسرة. تأتي هذه المقالة للمشاركة في هذا الحوار المجتمعي.
ضرورة الإصلاح ومشروعيته:
لا شك أن الأحكام الشرعية جاءت لمقاصد جليلة عظيمة، لتصلح أحوال العباد في المعاش والمعاد، وقد أكد الشارع الحكيم هذا حين عدَّ المقصدَ الإجمالي من تنزيله لهذا الدين هو كونه جاء من أجل مصلحة العباد والرحمة بهم، قال المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا رَحمَةً لِلعالَمينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، فما من حُكم إلا ونزل رحمة للإنسان، بل ولجميع العوالم التي خلقها الله، ما علمناه منها وما لم نعلم.
كما أكد الشارع الحكيم أيضا من خلال سرده لقصص الأنبياء مركزية الإصلاح في وظيفتهم، فوضح أنّ من وظائف الأنبياء، زيادة على تصحيح عقائد الناس وتلقينهم التوحيد، إصلاحَ أحوالهم ببناء ما انهدم من قيمهم وما أفسدوه من أمر معاشهم، فجاء شعيب داعيا إلى ترك الغش في الميزان، وجاء لوط داعيا إلى العودة إلى الفطرة السليمة وترك الفاحشة، وجاء موسى محذرا فرعون من عاقبة الاستبداد وظلم الرعية…، وهلم جرا.
كما استقرأ العلماء الأدلة التفصيلية لديننا الحنيف، فما وجدوه إلا قاصدا تحقيق المصلحة ونفع البشر، فخلصوا من كثير من الأحكام التفصيلية إلى كليات تحتم ضرورة حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال. من هنا، فكون الشريعة الإسلامية قد جاءت لتحقيق المصالح ودفع المفاسد أمر لا غبار عليه، والنصوص تتضافر لتؤكد هذا المعنى وتقويه.
أما عن الْمَقْصِد الشَّرعِيّ مِنْ دخول المكلف تحت الأحكام الشرعية فهو ما ذكره الشاطبي رحمه الله في موافقاته من كون مقصد ذلك هو إِخْرَاج الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا، كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا، [الموافقات،2-289] ولا يخفى على من خبر الشريعة من حيث تفاصيل أحكامها الفهم الدقيق لفلسفة الإسلام من الوجود البشري، الذي يتعلق في ديننا باختبار التسليم لله من جهة الأمر القدري والأمر التشريعي، حيث لا يخرج العبد عن كونه عبدا مقهورا من حيث جريان القدر عليه من غير حول منه ولا قوة، مع كونه حر الإرادة في جوانب الاختبار الدنيوي المتعلق بالمصير الأخروي، فيُراد من الإنسان هنا الدخول من باب العبودية طوعا لبارئه بملء إرادته كي يحقق النجاح في مصيره الأخروي، فيُسلِّم لبارئه ويعمل بمقتضى هذا التسليم بالعبادة وتنزيل أمر ربه في سائر شؤون حياته، وهذا يجيبنا أيضا عن المقصد من خلق الإنسان، وهو عبادة خالقه بعبادات ظاهرة تعمل عملها في القلب من حيث التسليم لله والخشوع له والخضوع لأمره، قال تعالى: ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وقد حذر الشارع الحكيم البشر من أن يخرج الإنسان من مضمار التسليم لخالقه والانقياد له، وبيّن أن هنالك من يصنع إلهاً باطنيا داخله يعبده من دون الله بالانقياد لأمره ونهيه، فيملي عليه، ويأمره وينهاه، قال تعالى: ﴿أَفَرَايتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ﴾ [الجاثية: ٢٣]، فلا تجد هذا الإنسان إلا منقادا لهواه متعبدا في محراب الشهوات، ساعيا في إعلاء فلسفة اللذة والمتعة والإجهاز على القيم والأسرة من منظور مناكف للشرع الذي يتمسك به غالبية الناس.
وقد ارتبط هذا السعي عند كثير من الأصوات التغريبية بتعظيم المدنية الغربية تعظيما ملازما لتحقير بني جلدتهم، فتجدهم يقفزون من مسلّمة كون الغرب متقدما ماديا إلى النتيجة المصادر عليها، التي هي القطع بقدرة الغرب على بلوغ الحق في كل شيء، والانبطاح له والسماح له بممارسة الأستاذية والأبوية والإملاءات على أمة ذات تراث إنساني وحضاري وقيمي عريق، فيُحاكم بعد ذلك مظاهر التقدم والتخلف الأخلاقي في مجتمعه إلى التصور الغربي للتقدم والتخلف الذي يعتبره أمرا مقطوعا بصحته غير قابل للنقاش، والدليل عندهم هو تقدم الغرب المادي كما ذكرنا، هذا مع كون الغرب لم يتقدم بحرية الشذوذ الجنسي مثلا، ولا بالتمكين للمرأة إلى حد تخريب الأسرة وغيرها، بل بالأخذ بالسنن الكونية فقط.
يضاف إلى ما تقدم أنّ موافقة تلك الشعارات البراقة لهوى القلب، والتي تعد بفردوس من اللذة على الأرض عبر هتافات الحرية المطلقة والسعار الجنسي اللامحدود يولّد حالة من المسارعة عند هؤلاء إلى المطالبة بتنزيل الإملاءات على أرض الواقع بتحريم ما أحله الله وإباحة ما حرمه الله، وحجتهم في ذلك أن الشريعة نزلت لظروف وملابسات لا نعرفها اليوم، وأن زماننا غير زمانهم وغيرها من الكلمات التي تشتغل على وتر الزمن وتغير أحوال الناس.
وهذا في حقيقة الأمر ليس هو الإصلاح الذي يرجوه المغاربة من خلال مدونة الأسرة، والتي يعتبرها المغربي أهم حاضنة له في معترك الحياة، ومن هنا تطفو على السطح إشكالات تتولد عن أطروحات الاتجاهات الليبرالية التي لن تؤدي إلا إلى التضييق على حرية أغلبية متدينة ترجو التمكين لشرع الله وعدم حرمانها من الشعور بالأمن الروحي والأسري.
لا شك أن الواقع ركيزة أساسية في عملية إنتاج الفتوى وكذلك الإصلاح المرتقب للمدونة، فبالإضافة إلى النص الشرعي، لا بد من النظر في واقع الناس حتى يتم تنزيل النص على واقعهم بطريقة تراعي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية والتي من بينها مقصد رفع الحرج، ﴿ما يُريدُ اللَّهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِن حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦]، ورفع الحرج على الناس يتطلب نظرا فقهيا دقيقا في واقعهم وعوائدهم ومتغيراتهم لجلب المصالح التي أرادها لهم الشارع ودفع المفاسد كذلك، فلذلك لابد من علم دقيق بأحوال الناس وواقعهم إضافة إلى تمكن من العلم الشرعي وهضم لفلسفة التشريع فيه، حتى يكون التوقيع عن رب العالمين بما يرضي رب العالمين سبحانه، وبما ينزل في الناس منزلا يرضيهم.
وبالتالي، فإن إصلاح المدونة يجب أن ينطلق من دائرة الشرع، من داخله لا من خارجه، كما يجب أن ينظر إلى الواقع من زاوية نظر شرعية، تراعى فيه المصالح التي يقرها الشرع، والمصالح المرسلة، وتترك المصالح التي لا يعتبرها الشرع.
فالسعي في إصلاح مدونة الأسرة أمر لا إشكال فيه، بل هو أمر مطلوب ومحمود، وتغير أحوال الناس وعوائدهم وحدوث الأقضية فيهم يزيد مسألة الإصلاح ودوام التجديد إلحاحا، إلا أن الإشكال في إلباس مصطلح الإصلاح سرابيل تغريبية لا تراعي واقع الأسرة المغربية المسلمة التي تتزوج على سنة الله ورسوله وتتصاهر بالحلال، وتعتبر الحلال والحرام أمران لا غنى عنهما في حياتهم الأسرية، فتأتي هذه الأصوات التغريبية تصيح بأن واقع الناس اليوم يفرض حمل منظور غربي جاهز وبثه في الناس والتأسيس له في البلاد انطلاقا من مدونة الأسرة.
فمراعاة الواقع الإسلامي للمغاربة لابد أن يكون موضع حرص ومراعاة من الجانب الليبرالي الذي يبدو في كثير من الأحيان مناوئا لما عليه الناس، فالإسلام ليس وليد اليوم أو الأمس في هذا البلد التليد، بل الإسلام في المغرب يناهز ويقارب عمره منذ أول ظهور له مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك عمق علاقة المغاربة بدينهم وتمسكهم به وحرصهم على تأدية شروط الزواج والطلاق وفق المنظور الإسلامي، وتواتر الأسئلة الواردة على الفقهاء والعلماء في هذا الباب يدل على أن واقع الناس ليس هو الواقع الغربي الذي يرجى تحكيم قوانينه على الناس في هذا البلد.
كما أن الواقع الغربي اليوم يشهد ولادة لإشكالات لم نعرفها يوما ولا شهدناها في أحيائنا ودورنا وهي تلك الإشكالات القيمية المتولدة عن الليبرالية المطلقة التي تتصالح، بل وتتطرف في دعم ظاهرة الشذوذ الجنسي والسعار الجنسي كذلك، وظاهرة الكلاب البشرية وظاهرة العزوف عن الزواج، وظاهرة الأبناء المتخلى عنهم والذين لا يعرفون آباءهم، وقد قدرت بعض الإحصاءات في فرنسا أن عددهم يفوق الخمسين بالمئة.
الإصلاح وأصوات التغريب:
يولي الإسلام الحنيف عناية فائقة للأسرة باعتبارها صمام أمان للمجتمع، لذلك نجده قد أطرها برؤية تجعلها مؤسسةً الغايةُ منها إنتاج فرد صالح عابد لله عز وجل ومحققا لمهمة الاستخلاف، هذه الرؤية الدينية تختلف تماما عن المنظور الغربي الذي تجاوز المفهوم الفطري للأسرة المكونة من رجل وامرأة وأبناء، إلى اختلاق نوع جديد -الجندر- من العلاقات تنسف المفهوم السابق أو تجعله خيارا فقط ضمن خيارات متعددة نتيجة للفلسفات الحداثية والمابعد الحداثية التي اتجهت لمركزية الإنسان وتأليهه والإعلاء من فردانيته.
إذن، فنحن أمام مفهوم للأسرة يتأطر بالوحي الكريم كتابا وسنة، ومجمع عليه من قِبَل النسيج المجتمعي المغربي والإسلامي، ومنظومة وافدة تحاول إعادة هيكلة الروابط الاجتماعية وفق الأعراف والمواثيق الدولية التي قد تتعارض أحيانا مع المعطى الشرعي.
وإذ كان المغرب قد انخرط بعد الاصلاح الدستوري لسنة 2011 في اعتبار المواثيق والاتفاقيات الدولية، وسموها على القوانين الوطنية بشرط حفظ الهوية والسيادة الوطنية، كما قررته الفقرة ما قبل الأخيرة من تصدير الدستور الذي نصه: ’’ جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة‘‘.
يمكن اعتبار النص السابق إلى ما ورد في الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه أمير المؤمنين بمناسبة عيد العرش لسنة 2022 إذ قال: ’’ وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، لا سيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.
ومن هنا نحرص أن يتم ذلك في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور، والتحاور وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية‘‘. انتهى.
يمكن اعتبار ما سبق أرضية للنظر في هذه المطالب التي ترفعها بعض التوجهات المجتمعية، والتي تفصح دون مواربة عن قصدها بالمساس بالجوانب المؤطرة بالنصوص الدينية القطعية.
وإذ نوافق الراغبين في الاصلاح من جهة، نظرا لضرورة هذه العملية في ظل المتغيرات التي يعج بها المجتمع المغربي، والتي تلقي بظلالها على الأسرة، مما يترتب عليه نتائج متعددة على عدة مستويات تمس توازن الفرد في الأمد القصير، والمجتمع جملة في المدى البعيد، فلا يمكننا من جهة أخرى تجاهل أهمية الشريعة ومقاصدها ودورها في حفظ البناء المجتمعي، فالمجتمع المغربي مازال يرتكن للإسلام دينا يؤلف نسيجه ويوجه سلوكيات أفراده، ولا ينبغي في ظل ارتفاع منسوب التدين لدى الشباب المغربي والتشبث بالهوية كما تشير إلى ذلك أغلب التقارير الصادرة مؤخرا كتقرير البارومتر العربي الذي جاء فيه كون ’’مستويات التدين في المغرب قد زادت بالمقارنة مع سنة 2018‘‘ ص17.
إضافة إلى تقرير مركز الأفروباميتر حديث الصدور (17 مارس 2023 باللغة الفرنسية والذي جاءت نتائجه المفتاحية أو ملخصه (les résultats clés) كون ما يقارب 78٪ من المغاربة يرون أن تعديل مدونة الأسرة فيما يخص مساواة الجنسين يجب أن يستجيب للشريعة الاسلامية، مقابل 20٪ التي ترى موافقتها للاتفاقيات الدولية. ص 1.
بناء على ما سبق لا يمكن القفز على هذه المعطيات لإقرار إصلاح يخالف الشرع الإسلامي لمركزيته كفاعل في صياغة حياة الإنسان المغربي، ولا يمكن تجاهل رغباته وتطلعاته لتنزيل رغبات الجهات الدولية.
إشكال تحويل الاستثناء أصلا:
إن من مسالك الدعوة إلى تعديل المدونة الإتيان بنماذج لحالات اجتماعية ترزح تحت وطأة المفاسد الشرعية، أو المشاكل الاجتماعية، وجعل هذه الحالات باعثا مـلِحا على صياغة قانون جديد يلائم تلك النوازل، وهذه الحالة نجدها بدرجة كبيرة عند دعاة تعديل نظام الإرث، ومدونة الأسرة؛ وفي هذا المقام سأشير إلى بعض الأعطاب المنهجية في هذا التصور:
عندما نتحدث عن أحكام الإرث، وعن أحكام الأسرة، فإننا نتحدث عن أحكام مظَـلَّـلةٍ بنظام فقهي له أدواته المنهجية، ومن خصائص هذا النظام ضرورةُ خضوعِه لنسقٍ مطرد، ولا يقع الاستثناء منه وخرم اطراده إلا بالضرورة والمصلحة، ولا يتم ذلك إلا بضوابط. كما أن هذا النظام الفقهي ليس ذا صورة واحدة ولا مستوى واحد، بل إنه ينقسم إلى أقسام باعتبارات مختلفة، كانقسام أحكامه إلى أحكام أصلية، وأخرى تبعية، كما نص على ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات؛ وانقسام طبيعته إلى فقه استنباطي، وآخر تنزيلي، وغيرها من الأقسام.
إن أبرز إشكال منهجي يقع فيه دعاة تعديل الأحكام الفقهية هو خلطهم بين مستويات الفقه وأحكامه السابقة، إضافة إلى إساءتهم تصورَ عملِ الفقيه؛ ذلك أن الأحكام الأصلية تبقى أصلية لا لكون الفقيه أرادها أو دعا إلى الجمود عليها، وإنما لأنها مدلولات النصوص الشرعية، خصوصا إذا كانت قطعية أو وقع عليها الإجماع كما في غالب أحكام الإرث؛ أما الحالات التي تتحقق فيها المفاسد فإن للفقيه القدرةَ على تكييف الأحكام بما يرفع الحرج عن المكلفين ويدرأ المفاسد عنهم، وهو ما يسمى بفقه التنزيل، أو تحقيق المناط في الوقائع التي يؤثر فيه النظر المآلي ومراعاة الأصلح وترتيب الأولويات. وعليه، فإن ما يجب إثباته قانونا أصليا هو ما كان مقررا من الأحكام الأصلية، على أن تنصرف مطالب التعديل إلى ضرورة العناية والتأصيل لأساليب استنباط الأحكام التبعية التي يرفع بها الحرج وتتحقق بها المصالح الشرعية.
إن أخذ الحالات الطارئة التي ظاهرها تحقق المفاسد وجعلها أصلا يعود بنا إلى مفاسد أكثر، إذ إنه لن يعدوَ أن يجعل الاستثناءَ القليل أصلا، والأصل الكثير استثناءً، وهذا دفع لمفسدة بأخرى أكبر منها شرعا وواقعا؛ كما أن النزاع لن يرتفع عن طلب الحق في المال، خصوصا إذا كان المنازِع ينازع بنصوص شرعية وإجماع الأمة؛ ومن أمثلة هذا العطب المنهجي أيضا تلك البدائل المقترحة التي تُظهر ضعفا في تصور الواقع، وتفرض بدائل ثابتة وغير عادلة تناقض النفَسَ الفقهي الذي يمتاز بالمرونة.
من هذه الأمثلة التي جاءت في صورة البديل، المقترح الذي تقدمت به السيدة النائبة زينة ادحلي عن فريق التجمع الوطني للأحرار بتاريخ (19\10\2022)، برقم تسجيل: 172، الذي طالبت فيه بتعديل المادة 184 من القانون رقم 70.03 من مدونة الأسرة، والتي نصها:
المادة 184
تتخذ المحكمة ما تراه مناسبا من إجراءات، بما في ذلك تعديل نظام الزيارة، وإسقاط حق الحضانة في حالة الإخلال أو التحايل في تنفيذ الاتفاق أو المقرر المنظم للزيارة.
والنص المقترح للتعديل هو:
المادة 184
تتخذ المحكمة ما تراه مناسبا من إجراءات، بما في ذلك تعديل نظام الزيارة، وإسقاط حق الحضانة في حالة الإخلال أو التحايل في تنفيذ الاتفاق أو المقرر المنظم للزيارة.
على أن تعتمد المحكمة في إسقاط حق الحضانة على التدرج في تطبيق التالي:
1- الحكم على الـمخل بنظام الزيارة بغرامة مالية 5000 درهم.
2- إسقاط حق الحضانة عنه لمدة ستة أشهر.
3- الإسقاط الكلي لحق الحضانة.
وتراعي المحكمة في تطبيق أحكام هذه المادة المصلحة الفضلى للطفل.
تسجل على هذا المقترح مجموعة من الملاحظات، أذكر منها اثنتين، إحداهما منهجية والثانية معرفية؛ أما الأولى فهي التناقض الحاصل في الصياغة المقترحة بين عبارة «تتخذ المحكمة ما تراه مناسبا من إجراءات»، وبين عبارة «على أن تعتمد المحكمة في إسقاط حق الحضانة على التدرج في تطبيق التالي». فالنص المقترح يمنح المحكمة مطلق التصرف في مطلع المادة، ثم سرعان ما يقيد هذا الإطلاق، وهو تناقض تنأى عنه صياغة القاعدة القانونية والفقهية، ويُـشعر بإقحام المقترح عنوة وإن كانت تأباه الصياغة الأولى.
وأما الملحظ المعرفي، فيتجلى في طبيعة الاقتراحات، خصوصا تلك الغرامة المالية التي تتناقض مع التسويغ الذي سبق صياغة القاعدة، ويُظهر قصورا في مراعاة أحوال الناس واجتزاء للقواعد، إذ إن تحديد الغرامة في 5000 درهم لا يتوافق مع صميم النظر الفقهي، خصوصا وأن صائغ القاعدة حاول إضفاء الشرعية عليها بإيراد نصوص شرعية (أحاديث وأقوال فقهية)، ذلك أن التعزير النسبي لا يقبل التحديد مطلقا، لأن شخصا من ذوي الثراء قد لا يتوانى في إعطاء مبلغ 5000 درهم مقابل تمديد فرصة امتلاك حق الحضانة، كما أن ذلك المبلغ بالنسبة لطائفة من الناس يعد إفلاسا وإفقارا ، في حين أنه قد يعمهم ما تم التسويغ به في مطلع المقترح، وهو عبارة «فكم من أم أسقطت حضانتها لامتناع راجع إلى كون المحضون مريض أو على سفر»؛ والحال أن هذا العذر قد يشمل أيضا الحاضن لا المحضون فقط، ولذلك كانت الصياغة الأولى أقرب إلى النظر الفقهي من الصياغة المقترحة التي لا تخلو من مشاكل.
ويتجلى الاجتزاء في إعمال القواعد في اعتبار مصلحة الطفل دون التفات إلى مصلحة الحاضن، والحال أن رخاء حياة الحاضن أصل لرخاء حياة المحضون، وهل مثالية الحضانة المنشودة إلا نتيجة لما يُفيضه عليه حاضنه من رعاية، وهنا تتجلى آثار تلك الغرامة المحددة التي سترخي بظلالها حتما على نفقات الحاضن على المحضون؛ فإن قيل إن للمحكمة الحق في فعل ما تراه مناسبا من تخفيف، صار ذلك التحديد بلا معنى، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه آنفا من أن الصياغة الحالية أكثر مرونة من المقترحة.
مدونة الاسرة وسؤال المرجعية :
مما هو معلوم لدى المهتمين بموضوع مدونة الأسرة ومستجداتها الفقهية والقانونية، أن هذه المدونة عبارة عن قانون وضعه البرلمان المغربي سنة 2004م، ويحتوي على الأحكام المتعلقة بالأسرة، من خطوبات وأنكحة وطلاق ووصاية وحضانة ونفقة… وما إليه.
ومما هو معلوم كذلك، أن الذريعة التي بموجبها تم سن هذا الميثاق الأسري؛ هي حماية الأسرة، سيما المرأة والطفل، من التظلمات التي تلحقهم، أو التي يُظن أنها تلحقهم.
لكن الإشكال الأول الذي يمكن لفت الانتباه إليه، هو أن هذا الميثاق القانوني مستنسخ في فكرته من القانون الوضعي الغربي، بينما البيئة التي تم تفعيله فيها بيئة إسلامية. وهنا يطرح السؤال، وهو سؤال واقع يفرض نفسه بنفسه: ما المرجعية التي يُحتكم إليها في هذه المدونة؟ هل هي المدونة الوضعية المحضة؟ التي يكون الإنسان فيها حاكما ومحكوما، يشرع لنفسه بنفسه؟ أم هي الشريعة الإلهية، حيث الوحي هو القضاء الأعلى؟ سيما ونحن نتحدث عن المغرب، الذي هو بلد مسلم بنص الدستور، مرجعيته العليا هي الدين، والمذهب المالكي من ثوابته الكبرى في الفقه!
ولعل هذه الإشكالية هي المظلة الكبرى التي تتفرع عنها أغلب المشاكل المجتمعية التي تطرح اليوم في ساحة التشريع القضائي والقانوني المتعلق بمؤسسة الأسرة، وعلى رأسها قضايا المرأة والطفل، والتعديلات التي تلحق هذه المدونة، أو حتى تلك التي هي محل جدل كبير، والتي يراد إلحاقها وإدراجها بالمدونة، مثل مسألة إلغاء التعصيب، والتسوية في الميراث، وما إلى ذلك.
وفي هذا الصدد، لن تكون مقالتي هذه تفصيلًا قانونيا ولا فقهيا لهذه القضايا، بقدر ما هي -كما عنونتها- نظراتٌ في بعض ثنايا هذه المدونة، من خلال الإشكالية التي طرحتها أعلاه، أي مسألة تعدد المرجعية المقترحة لمدونة الأسرة المغربية.
وفيما يأتي عرض لبعض الإشكالات المتعلقة بالموضوع:
رفع سن الزواج
لعل من أشهر التعديلات التي تضمنتها مدونة الأسرة، رفع سن الزواج بالنسبة للرجل والمرأة من خمس عشرة سنة إلى ثماني عشرة سنة.
ومما لا ريب فيه أن هذا القرار فيه قدر من المعقولية، فالفتيات قبل بضعة عقود فقط، كُنَّ يتزوجن في سن مبكرة، ويبنين أسراً وينجبن أطفالًا ويصبحن ربات بيوت. أما اليوم فبنات خمس عشرة سنة وست عشرة سنة مازلن -في أغلبهن- طفلات صغيرات، غير مؤهلات للزواج، وليست لهن القدرة على تحمل مسؤولية الأسرة وأعباء الحياة. وهو ما يصطلح عليه في الوضع القانوني المعاصر: “زواج القاصرات”.
لكن الذي نلفت النظر إليه، أن هذا المعيار رغم ما فيه من معقولية، فإنه كذلك لا يخلو من أعطاب، فمعيار السِّنِّ غير منضبط، إذ قد نجد الفتاة لم تبلغ الثامنة عشرة وهي مؤهلة للزواج، والعكس صحيح، نجد فتيات كثيرات، تجاوزن سنَّ العشرين، وليست لهن القدرة النفسية ولا الجسدية على الزواج. وعليه، فإن هذا المعيار المقترح في المدونة يحل إشكالا ويطرح إشكالات.
بينما الفقه الإسلامي، لم يعتمد معيار السن إلا في حالات معينة، لأنه ليس منضبطا كما تقدم، وجعل الزواج رهينا بالمصلحة المقدرة شرعًا، ثم فرق بين العقد والبناء، فجعل العقد منوطا بالمصلحة والبناءَ منوطا بما يسمى في اصطلاح الفقهاء: “القدرة على تحمل الوطء”. وتحدثوا كذلك عما يسمى بمعيار “التكافؤ”، أي الكفاءة النفسية والجسدية للانخراط في مؤسسة الزواج.
وهذه المعايير أنجع وأنجح، لأنها لا تحرم مَن هُن دون سن الثامنة عشرة الزَّواج في حال كنَّ راغبات ومؤهلات لذلك نفسيا وبدنيا. وفي الوقت ذاته، لا تسمح بالبناء على من هن فوق الثامنة عشرة، ولو بلغن العشرينات، في حال كن غير قادرات على تحمل البناء الشرعي.
وبما أن المدونة تصرح بالمرجعية الدينية والمذهب المالكي، فربما كان يحسن اعتبار هذا الأصل في تحديد شروط الزواج. لكننا نجد أن استنساخ القانون الغربي، الذي يتيح في بعض منه الزواج قبل سن الثامنة عشرة والنسق الروماني-الجرماني (النسخة الفرنسية) خصوصا، هو الذي حدث. علمًا، أنه في عدد من الدول الغربية، لا يُسمح بالزواج قبل سن الرشد، لكن يسمح بممارسة ما يسمونه “العلاقات الرضائية” خارج إطار الزواج قبل سن الرشد، كما أنهم لا يسمحون بتعدد الزيجات، ولكن يسمحون بتعدد الخليلات، والمثلية الجنسية، وهذا عين التناقض.
ولا يعنينا في هذا المقام تقويم هذه الممارسات، بقدر ما يعنينا مدى مناقضتها للخلفية العقدية التي تنبت فيها هذه المدونة. كما لا يعنينا معيار سن الزواج، ولا نقترح فيه رأيا محددا، بقدر ما نقارن بين المرجعيتين اللتين تتواردان على مدونة الأسرة، القانون الوضعي، والفقه الإسلامي. وأيهما أقوم قيلًا فيما نصبو إليه.
المساواة في الحقوق والواجبات من الأمور التي تم تضمينها في مدونة الأسرة كذلك، مفهوم التسوية بين الزوجين في الحقوق والواجبات، والاستعاضة عن مفهوم “طاعة الزوجة لزوجها” بمفاهيم المسؤولية المتبادلة.
ولا شك أن ظاهر الأمر الإصلاحُ ورفعُ ما يحيف بالمرأة من ظلم تحت طائل الوصاية والاستعمال الفاسد لمفهوم “القوامة”.
ولكن هذا الأمر، كما هو موضح في إشكالية مقالنا، لا ينبني على المصلحة المجردة، بل له خلفية حاملة تغذيه، وهي خلفية القانون الوضعي الغربي، الذي يرى المرأة والرجل سيان، لا يميز بينهما على مستوى الحقوق والواجبات مميز.
والحال، أن هذا الأمر مدخل من مداخل الإفساد -غالبا- لا الإصلاح، إذ التسوية لا تعقل بين ذوي الجنس الواحد، فالرجال أنفسهم لا يمكن التسوية بينهم في الحقوق والواجبات، مثلا في علاقة الأب بابنه، لاشك أن حقوق وواجبات كل منهما تجاه الآخر تختلف، وكذلك العلاقة بين المرأة وابنتها. والأمر نفسه في العلاقة الزوجية، صحيح أنها علاقة تشاركية، لكن دور كل واحد من الطرفين يختلف عن الآخر، بما يتوافق مع خصائصه السيكولوجية والفيزيولوجية.
وهنا يأتي مفهوم القوامة الشرعية، التي لا تعني التسلط والتجبر والظلم، كما يحلو للبعض أن يفهمها ويروج لها. بل يقتضي القيام بواجبات الأسرة، من نفقة وحماية ورعاية وتحمل أعباء الحياة. وحتى على اعتبار الدور الذي أصبحت تشغله المرأة في المجتمع، فإنها من الناحية الشرعية، ليست ملزمة بأي شيء، بل حتى عملها في بيتها، ذكر المالكية أنها غير ملزمة به شرعًا. ولها المهر والنفقة والإحسان، وعليها الطاعة في المعروف.
والطاعة ليست عيبا، فطاعة الولد لوالدته (مثلا) ليست عيبًا، مادامت في المعروف. هكذا هي أقوال الفقه، وهي المنظومة المؤطرة لقانون الأحوال الشخصية في الدستور الإسلامي. لكننا مازلنا نجد هذا التضارب في سن قوانين المدونة، بين مرجعيتين، تتعارضان في جملة من المبادئ، وعليه، يمارس ما يمكن تسميته بالإسقاط، أي إسقاط المفاهيم الغربية في بيئة أجنبية، هي البيئة الإسلامية.
إن الشريعة الإسلامية قد أحلَّت الأسرة مكانة رفيعة، وفصلت جملة أحكامها في التنزيل الحكيم، فوضعت الأصول والقواعد الكلية، ونصت على الضوابط المركزية، من أنكحة وعقود ومواريثَ وحقوقٍ وواجبات، ثم تركت مجالا واسعا للاستنباط والاجتهاد، يقدر وفق المصلحة الشرعية، والرؤية الفقهية، والضرورة الاجتماعية، بما يتوافق مع أصول الشريعة ومقاصدها الكلية، لا وفق إسقاطات وتطويعات أجنبية، بعيدة عن الخلفية الرافدة لموضوع الأسرة بكل ثقله وحمولته المعرفية والحضارية.